لا يدرون كيف يفكر .. و ان عزموا و شحذوا النوايا الحسنة لسبر اغواره .. فهو ماهر في جعلهم يتيهون في دوامات من الثرثرة .. و وديان من الغموض .. و سهول من الخداع .. و ان رزم الأمر .. أمطرهم بالغضب و صب عليهم ويلات حنقه .. و لكن في النهاية .. لا نهاية مثمرة ..
في بادئ الأمر كانت السخرية .. الضحك من أمر ملفت .. ثم مع استمرار سلوكه وفد الاستغراب و أقام .. و عندما بات في صدورهم أرقهم .. و بدأوا يتساءلون .. و عكفوا على البحث عن أطباء في الشئون النفسية الداخلية التي يصعب عليهم فهمها .. أساءوا التقدير فزجوا به الي عيادة طبيب أعصاب شهير .. كان طبيب طاعن في السن و لكن عميق العلم و الحكمة .. طردهم شر طردة .. و أنكر أن يكون به عيبا عصبيا .. نهجوا السؤال .. القريب .. البعيد .. الجار .. مصلي الزاوية .. الزملاء في العمل .. عزفوا عن الشيخ الذي يتلو آيات محكمات بحجة طرد المارد الساكن أو لتسخير آخر .. و لكن بالهم لم يهدأ .. و كيف يهدأ و هم يشهدون في حياته تردي تلو تردي .. لا يفلح في الاختلاط مع من حوله .. لا يريد النطق .. يأبي الضحك .. يشرد دائما .. ناهيك الصمت الملازم .. و كأن أحدا لم يفقهه ما جدوي الفم و فيم يستخدم .. اذا ألح عليه الحاحا شديدا مستميتا ان يدلي برأيه .. انشقت الشفتان عن كلمات مقتضبة بائسة تحزن من أراد السلوي و تبكي من أراد الطمأنينة .. و لكنهم في النهاية اهتدوا الي التخصص الملائم لهذا الغلام .. أطباء من ذوي الأعمار الكبيرة .. الأربعين ربيعا على أقل تقدير .. مرت بهم أعينهم على شاشات التلفاز من قبل .. فيهم الأسماء المعروفة الرنانة .. التي يشهد لها الجميع بالحلول في العالم الغامض المطبق الغموض الي حد الانفصال عن السماء و الأرض التي نحيا بينهما .. و تنجب كليتين هذا النوع من الأطباء .. و لكل طبيب نهج .. منهم من يصرع المرض بالعقار الكيميائي .. غير مبالي بمعاناة المريض جراء هذا .. و منهم من يصعق المرض كهربائيا .. فيذهب المريض الي عطلة جسدية يعود منها سالما .. و منهم من ينقب عن أصل و فصل المرض حتي ليغرق في التنظير .. و منهم من يشرح المرض سلوكيا و يقود حرب ضروس عليه .. تفتك بالمرض او المريض .. و لكن و يا للعجب .. كل نهج ناجع .. و صارت حياتهم أوقات ما بين زيارتين يقضونها في الترقب و التربص ..
أما هو فكان هانئ مرتاح البال .. لم يستقر على هذا الحال سوي مؤخرا .. لقد كان في البداية حائرا تعصف به الحيرة عصفا غير هين .. كان ينوء بهم لا يعلم ما مصدره .. و يرزح تحت أصفاد لا يعلم لها مخرج .. كانت تباغته مشاعر تجعله مذهولا .. ك الماء الصاقع على الجسد البارد .. في خلسة من وعيه كان على يقين أن به أمر غير طبيعي .. و لكن وعيه كله كان مشتتا في محاربة الخواء الذي يباغته .. و لكنه اطلع .. قرأ .. طالع .. حتي بدأ يفهم .. و لكنه لأمر عصي على ادراكه حتي هذه اللحظة تلذذ بالبلاء المفجع الذي أصابه .. ربما لا تسرد الكتب كل شئ .. ففهمه و وعيه .. و استطاع أن يبني من حوله سور شاهق عظيم الارتفاع .. كائن من كان لا يقوي على اجتيازه أو حتي معرفة نهايته .. و أتقن الصنعة .. رمم السور .. دججه بالألغام .. لفه بالأسلاك الشائكة .. فما زاد الا سوءا في مرضه و ما ازداد من حوله الا خيبة فيه .. كان يطاوعهم و يصاحبهم الي كل طبيب .. و اذا ما دخل جلس على كرسيه .. حدق في المكان بعناية .. ثم لزم الصمت التام .. لا يحرجه الحاح من قبل الطبيب .. و لا يمل من وصدة شفتيه .. التزم هذا النهج مع ما ينيف عن العشرات منهم .. حتي يئسوا منه من اللقاء الأول .. حاول أحدهم ذات مرة أن يتحداه .. فكانا يجلسان ساعة كاملة كل أسبوع .. لو زلت قدم نملة من تحتهم لأحدثت دويا جللا .. و لكن كل منهم تمسك بموقفه .. حتي هزم الطبيب .. تحولت الساعة الي قيلولة .. هم كانوا على دراية برأسه الصلبة .. فلم يقنطوا في البداية .. ثابروا .. و صدقا تمنوا لو لان هذا الرأس .. و لكن اللين لم يطرق هذا الرأس و لا منه اقترب ..
هم لا يدرون كيف يفكر مريض نفسي في مثل حالته المتأخرة .. هم قد يكونوا قرأوا من قبل عن الذكاء .. المكر .. الحيلة .. الدهاء .. أما أن يرون هذه الكلمات مطبقة أمامهم .. فهذا ما لم يرونه .. لقد مرت به أيام مضنية .. تمزق فيها فكره حتي تفتقت عن الحل الأوحد .. فلقد كانت معضلته واضحة .. هو يريد التخلص من روحه و فصلها عن جسده .. و لتذهب الروح الي حيثما تشتهي و ليبلع التراب هذا الجسد ليستريح من مأزقه الدائم .. و لكن كيف .. لقد نشأ في بيت يعلو فيه صوت الأذان على كافة الأصوات .. مما يعني أن مسعاه سيبوء بنار جهنمية يخشاها .. فكيف له أن يفصل روحه عن جسده بلا أي يؤول به المآل الي الجحيم الأبدي .. لقد سخط على الذي استوي فوق العرش و سواه بشرا .. لماذا .. لماذا يحشر كيانين متنافرين في بوتقة واحدة تأسي من هذا الالتحام القسري .. فخاصم صلاة الجمعة .. و صم أذنيه عن الأذان و ما يمت له بصلة .. هو العند .. فلتزل به صاعقة من السماء للتكفل بفصل روحه عن جسده .. و بالغ في العند .. فقاسي ليال تتخللها نوبات سعال و أيام يذهب فيها وعيه كاملا و أنهك جسده في سيارات ملاكي و طفح لسانه بما يعيب .. و لكن ظلت روحه في جسده .. و ما ازدات روحه الا عذابا و جسده الا تعبا .. و لكنه اهتدي الي الحل السليم .. مريح للروح .. محافظ على الجسد .. و سينتهي به الي القبر حتما .. فلقد قرأ في احدي الكتب المعننة أن من علامات يوم الفصل أن يزهق العلم .. لا عن طريق اختفاء العلم .. و لكن بقبض العلماء .. بقبض أرواح الطيبون تعرف قرب ميعاد اليوم .. اذا .. فليكن أطيب الناس و أطهرهم قلبا و أغزرهم علما .. سينحت الكلمات الأثيرة في ذاكرته .. سيلوك لسانه كلمة المشايخ .. سيدع لحيته على سجيتها .. و قد كان .. لقد حصد الشهادات و الاجازات .. قبل يد المعمم و قبل يده معممون أخر .. لمع في العلم .. حتي ذاع صيته .. و كله يقين أنه اقترب .. و بذلك يفوز الجميع .. هو و روحه و جسده .. و بالفعل بدأت تنهال أخبار عن رحيل فلان طيب القلب .. و الحجة القديمة الجازمة : أصل الطيبين مش بيكملوا في الدنيا ..و تترامي الي مسامعه أنباء وفاة علان الشيخ العالم الورع .. فتزداد عينيه اغروراق .. سيلحق بهم لا محالة .. هم لا يدرون أبدا كيف يفكر المريض النفسي .. لقد ابتهجوا و سعدوا .. ظنوا أنه تماثل للشفاء .. و أن ما به قد فارقه .. و أنه سيملأ عليهم حياتهم بالخير العميم .. و هو قد أصبح هانئ مرتاح البال و الضمير ..
و عندما رسخت الأقدام في الميدان الأشهر .. لم يتأخر عن تلبية نداء الحق .. فكل شعار ينادون به يتفق تماما مع جلبابه .. فوهب نفسه لكل مليونية .. و وزع نفسه بالتساوي على كل خيمة .. لم يبرح أيام عديدة .. تلقي الهراوات بسعادة .. هتف مع الهاتفين .. و سار مع من ساروا .. و رسخت قدمه مع من رسخوا .. و لكنه بدأ ينزعج .. منذ أن مر حافر جمل أمام وجهه .. و شاهد الدواب تشرذم الجمع و تسحق الشريف .. لأنه كان دائما يغنم سلامته .. حتي و ان عرف التاريخ بهذا اليوم العجيب .. و وصلته أخبار مؤكدة عن موت أحباء له من الميدان .. اثر الحوافر نفسها .. انزعج بشدة .. ما الأمر .. لماذا دائما ينجو .. لماذا يفضل الهلاك أن يقتنص الآخرون و يأتي عنده فينصرف .. ألا يدري الهلاك أنه يكرس نفسه من أجله .. فقرر أن يعود بيته .. و عاد رغم البلبلة الشديدة .. و رغم الأسوار الحديدية التي هدت .. و مكث في بيته يفكر .. و راح يشاهد أي أحداث جللة عاصرها و نجا منها .. كل هذه الأيام .. و لم يحجز له صورة مثل هذه الصور التي باتت تعرض مرارا و تكرارا أمام مرآه .. و لبث أمام التلفاز يفكر .. حتي سمع صوت أذان الفجر .. فبرق الفكر .. و تذكر الجمهرة الصغيرة المحيطة ببيته .. و استعاد ما سمع من أن الهاربين يعيثون فسادا في الشوارع .. و انصت الي اصوات الموتوسيكلات الرائحة و الغادية .. و أنصت أكثر .. فسمع صوت طلقات نارية و صراخ يأتي من الجمهرة .. فقام ليتوضأ متمتا "من صلي الفجر في جماعة فهو في ذمة الله"
2 comments:
:)
gmeela ya Mostafa bs 7zeena shwaya
ana shyfa kan momkn tkbr 3n kda w yb2a feha a7das w tfaseel aktr ;)
bs brdo 7lwa 8-)
Good luck :)
Ghada
thanx
i know
really?
thanx
:D
Post a Comment